الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
الواقع أنَّ أمِّيَّةَ الرسول ﷺ صفةُ كمالٍ له هو تحديدًا، وليست صفةَ نقصٍ، وهذا له وحده دون غيره من البشر!
وصفه بأنه أُمِّيٌّ، ولا يعرف الشِّعْر:
وَصَف الله نبيَّه ﷺ بأنَّه «أُمِّيٌّ»؛ أي لا يعرف القراءة والكتابة. جاء هذا الوصف مرَّتين في سورة الأعراف. قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ﴾ [الأعراف: 157]، وقال: ﴿فَآمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 158].
هذا أمرٌ قد يستغربه الكثيرون!
وجه الاستغراب أنَّ الأُمِّيَّة صفة نقص، فلا شَكَّ أنَّ المعتاد أنَّ الذي يقرأ ويكتب أعلى من الذي لا يعرف ذلك، بل إنَّ القرآن الكريم مدح العارفين بالقراءة والكتابة في أوَّل آياتٍ نزلت على رسول الله ﷺ. قال تعالى: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ` خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ` اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ` الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ` عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ [العلق: 1 - 5]، والقراءة والكتابة ممدوحتان منذ اليوم الأوَّل لنزول الشريعة الإسلاميَّة، فكيف لا يعرفها حامل الشريعة إلى الناس؟!
الواقع أنَّ أمِّيَّةَ الرسول ﷺ صفةُ كمالٍ له هو تحديدًا، وليست صفةَ نقصٍ، وهذا له وحده دون غيره من البشر! سبب ذلك أنَّ الشريعة الإسلاميَّة -سواءٌ ما جاء منها في القرآن الكريم، أم السُّنَّة المطهَّرة- حَوَتْ من العلوم ما يذهل له العلماء المتخصِّصون، وذلك في كلِّ المجالات. إنَّها مذهلةٌ في علوم الدين، واللغة، والسياسة، والاقتصاد، والاجتماع، والإدارة، وعلوم الحياة المختلفة، وفنون التعامل، والتاريخ، والأدب، وغير ذلك من فنون وعلوم، فكيف يعرف كلَّ ذلك رجلٌ لا يعرف القراءة والكتابة إلَّا إذا كان الله يُوحِي إليه بهذه العلوم المتطوِّرة المذهلة؟ إنَّ عدم معرفة الرسول ﷺ للقراءة والكتابة دليلٌ على ربَّانيَّة القرآن والسُّنَّة؛ لأنَّه -بسبب أُمِّيَّته- لم يقرأ هذا في كتب الأوَّلين، ولم يطَّلِع على مؤلَّفات العلماء الذين سبقوه، فصارت أمِّيَّته أحدَ أدلَّة نبوَّته، وأحد أوجه عظمته.
هذا التبرير لأُمِّيَّته ذكره الله تعالى في كتابه فقال: ﴿وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: 48]، فلو كان الرسول ﷺ كاتبًا أو قارئًا قبل الوحي لادَّعى الكفار المبطلون أنه ينقل عن الكتب السماويَّة السابقة، أو عن مؤلَّفات غيره من الناس.
ومع أنَّ الرسول محمد ﷺ أُمِّيٌّ لا يعرف القراءة والكتابة إلَّا أنَّ الكفار افتروا عليه كذبًا بأنَّه ينقل من كتب الأوَّلين، فكيف لو كان يقرأ ويكتب فعلًا؟ قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ` وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ` قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الفرقان: 4 - 6].
ولكون هذه الصفة -أعني صفة «الأُمِّيَّة»- مهمَّة جدًّا في دفع الشبهات عن القرآن الكريم، والشريعة بشكلٍ عام، جعلها الله تعالى علامةً من العلامات الدالَّة على نبوَّة الرسول ﷺ في التوراة والإنجيل، وهو ما جاء في آية الأعراف، فهو -ﷺ- مكتوبٌ هكذا في الكتابين السماويَّين: «النبيُّ الأُمِّيُّ»، فكانت هذه إحدى الأمارات الدالَّة على أنَّه النبيُّ المنتظر والأخير في هذه الدنيا.
والواقع أنَّ أمَّة العرب بشكلٍ عامٍّ كانت في المعظم لا تقرأ، ولا تكتب، ولا تحسب! ولذا اشتُهرت بالأُمِّيَّة، واشتُهر العرب بأنَّهم «أُمِّيُّون»، وكان أهل الكتاب -على العكس من ذلك- يقرأون ويكتبون، ولذلك كانوا يُسَمُّون العرب بالأُمِّيِّين انتقاصًا منهم، وقال الله تعالى في كتابه واصفًا كلام اليهود على العرب: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ﴾ [آل عمران: 75]، بل اشتُهر العرب بذلك لدرجة أنَّ الله تعالى ذكر ذلك عنهم، وأنَّها صفةٌ لا تنفكُّ عنهم، فإذا ذكر أحدٌ الأمِّيِّين فهو يعني العرب بلا جدال! قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ [الجمعة: 2]، فالأمِّيِّون في الآية هم العرب، وقد امتنَّ الله عليهم ببعث الرسول ليُطهِّرهم، ويُعلِّمهم، وكانوا قبله أبعد الناس عن ذلك. -أيضًا- عندما ذكر اللهُ البشارة برسوله محمد ﷺ في التوراة ذكر من صفته: «.. وَحِرْزًا لِلْأُمِّيِّينَ»[1]؛ أي حصنًا ووقايةً للعرب.
وأنا أعتقدُ أنَّ الله عز وجل شاء أن تكون الأمَّة العربيَّة كلُّها في ذلك الزمن لا تقرأ ولا تحسب لغرض أن يعلم الجميع أنَّ الشرع العظيم الذي جاء في القرآن والسُّنَّة النبويَّة ليس نتاجًا لجهودٍ علميَّةٍ قام بها العرب على مدار السنين؛ بل كان العرب أمِّيِّين في معظم فترات تاريخهم، وكانت الكتب فيهم قليلةً للغاية، بل كانت الأوراق نفسها قليلة، ولم يكن يكتب منهم غير النذر القليل، وهذا كلُّه يُثبت بقوَّةٍ أنَّ القرآن والسُّنَّة أُوحِي بهما هكذا من عند الله، وليس للعرب جميعًا دخلٌ في نَظْمِهما أو كتابتهما، ولهذا قال رسول الله ﷺ: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ، لاَ نَكْتُبُ وَلاَ نَحْسُبُ..» [2]. إنَّه -ﷺ- لا يقول ذلك على سبيل الفخر، بل هو من جانبٍ يُقرِّر حقيقةً وواقعًا، ومن جانبٍ آخر يؤكِّد على أنَّ الشريعة الإسلاميَّة من عند الله، وليست نتيجة علومٍ عربيَّةٍ قديمةٍ أو حديثة.
ومن المنطلق نفسه لم يكن الرسول ﷺ يعلم الشعر مع أنَّه كان أفصح الناس، ومعرفة الشعر كانت فضيلةً في هذه البيئة، وكان للشعراء مكانةٌ مهمَّةٌ عند العرب، ولـمَّا تعرَّف الرسول ﷺ للمرَّة الأولى على كعب بن مالك الأنصاري، وكان شاعرًا مجيدًا، قال الرسول ﷺ مُثْنِيًا على الاسم: «الشَّاعِر؟»، وقد أعجب هذا التساؤل النبويُّ كعبَ بنَ مالك رضي الله عنه جدًّا حتى قال: «فَوَاللهِ مَا أَنْسَى قَوْلَ رَسُولِ اللهِ ﷺ: «الشَّاعِر؟»[3]. كان قول الشعر مكرمةً إذن عند العرب، وكان الشعراء مقدَّمين عندهم، ومشهورين في أرض العرب كلِّها، ومحفوظين في التاريخ، ومع كلِّ ذلك لم يكن الرسول يعرف الشعر، ولم يُفكِّر يومًا، في الجاهليَّة أو الإسلام، أن يَنْظِمَ ولو بيتًا واحدًا منه!
لماذا؟
والجواب: لئلَّا يُقال إنَّه شاعرٌ نَظَمَ القرآنَ الكريم بطريقةٍ جديدةٍ تُخالف مدارس الشعراء السابقين، فجاء القرآن على هذا النحو. لو كان شاعرًا لكانت هذه الشبهة قويَّة، بل إنَّ العرب أطلقوا هذه الشبهة، أي قالوا: شاعر، مع علمهم أنَّه لم يقل شعرًا في حياته، فكيف لو كان شاعرًا مشهورًا بالشِّعر؟!
لهذا كان من تعريف الله برسوله ﷺ في القرآن التأكيد على أنَّه ليس شاعرًا؛ فهذه من جملة الصفات المهمَّة التي يتَّصف بها النبيُّ ﷺ. قال تعالى: ﴿وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ﴾ [الحاقة: 41]، وأنكر على الكفار ادِّعاءهم على رسول الله ﷺ أنَّه شاعر، فقال: ﴿بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ﴾ [الأنبياء: 5]، وقال أيضًا: ﴿أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ﴾ [الطور: 30]، بل نفى اللهُ عن رسوله ﷺ علمَ الشِّعْرِ بالطريقة نفسها التي تُدْفَع بها «التُّهَمُ الباطلة»، فقال: ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ﴾ [يس: 69]! إنَّ الشِّعْرَ في حقِّ الرسول ﷺ تهمةٌ باطلة، فلا هو يعلمه، ولا «ينبغي» له أن يتعلَّمه! ليس هذا انتقاصًا من الشعر بوجهٍ عام؛ لأنَّ الرسول ﷺ كان يمدح الشعراء المسلمين المدافعين عن الإسلام بشعرهم، بل مدح شطرًا صادقًا من بيتٍ شِعْرِيٍّ قاله شاعرٌ جاهليٌّ قبل أن يُسْلِم؛ فقال: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ، كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلٌ..»[4]، والبيت قاله لَبِيد بن ربيعة رضي الله عنه قبل أن يُسْلِم. إنَّما كان هذا الاحتراز كلُّه لئلَّا يتوهَّم أحدٌ أنَّ القرآن الكريم نوعٌ جديدٌ من الشعر[5].
[1] البخاري: كتاب التفسير، باب تفسير سورة الفتح (4558)، وأحمد (6622)، والدارمي (6).
[2] البخاري: كتاب الصوم، باب قول النبي ﷺ: لا نكتب ولا نحسب (1814)، مسلم: كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال (1080).
[3] أحمد (15836)، وقال الأرناءوط: حديث قوي وهذا إسناد حسن، والطبراني: المعجم الكبير (174)، وصححه ابن حبان (7011)، وعلق الألباني على الإسناد فقال: حسن. انظر: التعليقات الحسان 10/121. وقال الهيثمي: رواه أحمد والطبراني بنحوه، ورجال أحمد رجال الصحيح غير ابن إسحاق، وقد صرح بالسماع. انظر: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 6/45.
[4] البخاري: كتاب الأدب، باب ما يجوز من الشعر والرجز والحداء وما يكره منه (5795) واللفظ له، ومسلم: أوائل كتاب الشعر (2256).
[5] انظر: د. راغب السرجاني: من هو محمد، دار التقوى للطباعة والنشر، القاهرة، الطبعة الأولى، 1442= 2021م، ص38- 42.
التعليقات
إرسال تعليقك